كشف ميخائيل ميلشتاين، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق ورئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب، أن المعطيات التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية للجمهور لا تعكس الواقع، لأن النتيجة العملية هي أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) خرجت منتصرة بعد ستة أشهر من استئناف حرب الإبادة على قطاع غزة.
وقال ميلشتاين -في مقال بصحيفة يديعوت أحرونوت- إن "إسرائيل لا تزال بعيدة عن تحقيق هدفيها المركزيين، هزيمة الحركة وإطلاق سراح الأسرى، في حين تواصل حماس سيطرتها كقوة مهيمنة في غزة، وقادرة على إدارة المجال العام والعسكري، وتوليد موجات متجددة من القتال".
وتحدث عما وصفها بـ"المفارقة الصادمة" التي تعيشها إسرائيل في تقييم حرب غزة. فوفق المزاعم الإسرائيلية، سيطر الجيش الإسرائيلي على أكثر من 70% من القطاع، وقضى على نحو 90% من عناصر حماس وقادتها، وفكك 22 من أصل 24 كتيبة للحركة، ودمر ترسانتها الصاروخية.
لكنه يناقض هذه الرواية بالقول إن حركة حماس، رغم الضربات القاسية، ما زالت قادرة على شن هجمات عنيفة في رفح وبيت حانون وخان يونس، وتستمر في تجنيد مقاتلين جدد وتعيين قيادات بديلة للذين قُتلوا، دون أن تظهر عليها أي علامات انكسار أو استعداد للاستسلام، كما وُعد الإسرائيليون منذ بداية الحرب.
محطة خطيرة
ويؤكد الباحث الإسرائيلي أن إسرائيل وصلت خلال الأشهر القليلة الماضية إلى أحد أدنى مستوياتها الإستراتيجية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. فإلى جانب استمرار المعارك واستعصاء تحقيق الأهداف المعلنة، تتجه تل أبيب نحو عزلة دولية متزايدة نتيجة حرب الإبادة في غزة.
ويحذر من أن الأسبوع المقبل قد يكون محطة خطيرة في هذا المسار، مع توقع موجة اعترافات واسعة بدولة فلسطينية خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأمر الذي يشكل "تسونامي سياسيا" يهدد مكانة إسرائيل في العالم.
ويضيف أن العلاقات مع الدول العربية آخذة في التدهور بوتيرة متسارعة، محذرا من أن أي خطوات إسرائيلية للضم، وخاصة في غور الأردن، قد تفجر أزمة إقليمية غير مسبوقة وتنسف ما تبقى من إنجازات اتفاقيات السلام والتطبيع، بما في ذلك مبادرات "اتفاقيات أبراهام".
تسويق الأوهام
ويرى ميلشتاين أن حالة الإحباط هذه دفعت صانعي القرار إلى إنتاج "أوهام" تُسوّق باعتبارها حقائق، ويجري تكرارها حتى تتحول في وعي الجمهور إلى مسلّمات.
ومن بين هذه المزاعم وجود دول عربية توافق على استيعاب سكان غزة، أو استعداد دولة الإمارات ودول أخرى لإدارة القطاع، أو إمكانية اعتماد "العشائر الغزية" بديلا لحماس، أو المراهنة على بعض الشركاء المحليين من العصابات والذين هم "مجرد عصابات إجرامية مرتبطة بداعش".
ويمضي الباحث الإسرائيلي في تبديد أوهام حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مثل الادعاء بأن الضم الجزئي في الضفة يمكن أن يتم من دون تهديد علاقات إسرائيل الخارجية، وأن بعض الدول ستوافق على استقبال المهجرين من غزة.
لكنه في الوقت نفسه يشير إلى احتمال عال لاستقبال هذه الأطروحات بإيجابية في الوسط الإسرائيلي، ويقول: رغم انكشاف هشاشة هذه الأطروحات، فإنها تستمر في التداول لأن الإعلام وبعض المسؤولين الأمنيين السابقين يروجونها باعتبارها "تفكيرا إبداعيا"، في حين يتلقاها الجمهور القصير الذاكرة باعتبارها "وقائع ثابتة".
وفي هذا السياق، ينتقد ميلشتاين غياب "القسم الواقعي" في الخطاب الإسرائيلي، حيث يتم استبداله بخطابات سياسية وأيديولوجية مغلفة بحجج إستراتيجية، مثل "الاستيطان يوقف الإرهاب" أو "العرب لا يفهمون إلا لغة السيطرة على الأرض"، مؤكدا أن هذه الشعارات ليست سوى أدوات لتبرير سياسات مسبقة بدلا من طرح حلول عملية.
سوبر إسبارطة
ويشير إلى أن "خطاب "سوبر إسبارطة" الأخير لنتنياهو، رغم أنه كان محبطا، فإنه قدّم على الأقل صورة صادقة عن رؤية القيادة للمستقبل. أما الوعود بطفرة عقارية أو مشاريع بنى تحتية على شاطئ غزة فهي مجرد أوهام لا تصمد أمام الواقع.
ويؤكد أن المستقبل القريب لن يحمل سوى قتال عنيف في مدينة غزة، مع مخاطرة مباشرة بحياة الأسرى وتعميق عزلة إسرائيل، والاضطرار لفرض حكم عسكري طويل سيكبد إسرائيل تكاليف باهضة لتلبية احتياجات الفلسطينيين في القطاع، فضلا عن أن نوايا احتمال المضي نحو خطوات ضم في الضفة الغربية ستكون خلافا لإرادة غالبية الإسرائيليين.
ويرى ميلشتاين أنه إلى جانب سبع جبهات عسكرية وأمنية تخوضها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، "هناك جبهة ثامنة داخلية خفية، بلا عدو خارجي، لكنها حاسمة. هذه الجبهة تتمثل في النقاش الداخلي حول الحقيقة، ومراجعة الإخفاقات الماضية، ومطالبة القيادة برؤية واضحة وإستراتيجية شفافة وتقديرات دقيقة للأثمان".
ويؤكد أن هذا السلوك لا يمثل ضعفا كما يعتقد البعض، بل هو تعبير أصيل عن الوطنية والطريق الوحيد لتصحيح الأخطاء المتراكمة. لأن الإصرار على تجاهل الحقائق والتشبث بالأوهام، كما يحذر ميلشتاين، لن يقود إلا إلى مزيد من الخسائر والانكسارات.