يدور الفلك دورته، ويشرق وجه الكون بذكرى اليوم الذي شرف فيه العالم كله بطلعة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- فتخفق قلوب الأمة المحمدية فرحًا وسرورًا وتهتزُّ جوانحهم بالعواطف الكمينة من حب النبي- صلى الله عليه وسلم- وإجلاله وإعظامه والحنين إلى ذكرياته، والشوق إلى رؤيته والاعتراف بفضله على الإنسانية جميعًا.
ويقول بعض الناس: إن الاحتفال بذكرى المولد بدعةٌ؛ لأنه حدثٌ في الدين، ولم يكن على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله أصحابه من بعده, ويقول البعض الآخر: هو أمرٌ واجب؛ لأنه دليل الحب والإعظام والتعلُّق بذات الرسول- صلى الله عليه وسلم- وذلك كله واجب على المسلمين.
وإذا أردنا أن نبين وجهَ الحق في هذا الحكم، فعلينا أن نتذكر الدافع الذي دفع المحتفل إلى احتفاله والمظهر الذي أعرب به عن شعوره، فإن كان الذي حدا به إلى الاحتفال هو الحب والتعظيم وكانت مظاهر الاحتفال درسَ علم ينتفع به أو صدقةً تعود على فقير أو عبادةً خالصةً لوجه الله- تعالى- أو نحو ذلك مما يجيزه الشرع، ويحصل به ثواب الله تعالى.. فالاحتفال حينئذ قربةٌ إلى الله تعالى.
وقد يستدل له بما ورد من أن أبا لهب يخفَّف عنه العذاب بعض التخفيف لسروره ببُشرى مولد النبي- صلى الله عليه وسلم- حين حملتها له جاريته ثويبة فأعتقها, وأما أنه لم يقع في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله أصحابه؛ فهو لأنَّ مظاهر الحياة في عهدهم كانت على حالة من البساطة تجعلهم لا يفكرون في شيء من هذه المظاهر، وحسب أحدهم أن يُظهِر شعورَه بكلمة يقولها أو بعاطفة تتردد بين حناياه، ومتى كان الدافع شرعيًّا، والعمل الذي ترتب عليه ليس فيه ما ينكره الدين فلا وجهَ للقول بالمنع حينئذ.
وإن كان الذي حدا بالمحتفِل إلى عمله عادةً ورِثها عن أبيه وقومه أو وَلَعًا بالفخر والظهور ليتحدث الناس بعمله، وكانت مظاهر حفله لا تتفق مع ما شرع الله- تبارك وتعالى- لعباده، ولا تخرج عن اللهو والعبث والطبل والزمر والصريخ في غير طائل والاشتغال بهذا الحفل حتى عن الفرائض، وضياع الأوقات في غير فائدة، وحشد الناس في صعيد واحد يختلط فيه النساء بالرجال وتكثُر فيه الموبقات والمناهك وتُنتَهك حرمات الله- تبارك وتعالى- فلا ترى إلا غفلةً مستحكمةً وسخريةً مخزيةً ومناظر يندى لها جبين الإنسانية، ويتقطع فؤاد المسلم حسرةً وأسفًا، ويبرأُ منها الإسلام.. فهذا حفل منكر، وإثم كبير على صاحبه والمشارك فيه، وهو أشد ما يؤلم النبي- صلى الله عليه وسلم- ويؤذيه.
فليلاحظ المسلمون هذا وليجعلوا احتفالهم بذكرى مولد النبي- صلى الله عليه وسلم- كلَّ عام تفهُّمًا لسيرته، وتعلُّمًا لأخلاقه، وتعرُّفًا لسنته- صلى الله عليه وسلم- وتواصيًا فيما بينهم بالحق والصبر؛ اقتداءً به- صلى الله عليه وسلم- وبأصحابه.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21).
بقلم الإمام الشهيد/ حسن البنا