وخسرت التحدي مع القائمين على الثانوية النموذجية (قصة واقعية مؤثرة)

 أولا أهنيء كل الطلبة المتفوقين في امتحانات الثانوية العامة ، وأتمنى لهم مستقبلا زاهرا ، لا أدري ما سر رغبتي الملحة في أن يطلع الجميع لاسيما القائمون على رعاية المتفوقين على قصة ابني مع امتحانات الثانوية العامة هذا العام ،  والوقوف على مدى الظلم الذي وقع عليه؟ ربما لأنني أردت بهذا أن يراجع هؤلاء لوائحهم ويتعاملون بروح القانون - عندما يتطلب الأمر - حتى لا يقع مثل هذا الظلم على غيره من الطلبة مستقبلا.. أو أني أردت أن يصلهم تساؤلي : لو أن ابن أحدكم مكان ابني ، وحدث له ما حدث لابني ، ماذا كنتم فاعلون ؟ أو أني أردت فقط  التخفيف عنه بجعل الآخرين يشاركونه همه ، لكل هذا عزمت أمري واستعنت بالله وعبرت  عن قصته بلسان حاله حيث يقول:

قصتي تبدأ من يوم عودتي من الأردن إلى أرض الوطن ، إلى حضرموت ، في بداية العام الدراسي المنصرم ، بعد قضاء ست سنوات دراسية في مدارس عمان العاصمة الأردنية ، بسبب انتقال عمل والدي الأكاديمي المعروف والتحاق والدتي بالدراسات العليا في الجامعة الأردنية ، أنهيت بنهاية هذه الرحلة  الصف الثاني ثانوي علمي بتفوق كبير ، كنت أحقق معدلات ما بين 95-97% في كل المستويات ، أتنافس فيها مع زملاء لي أردنيين على الترتيب الأول ، فتارة أغلبهم وتارة يغلبني أحدهم ، جئت إلى حضرموت وكلي أمل في دخول المدرسة الثانوية النموذجية للمتفوقين لدراسة السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية ، بعد أن سمعت عن هذه المدرسة ، وعن الدعم والرعاية والاهتمام التي توليها لطلبتها ، فأنا في أمس الحاجة إلى مثل هذا ، لاسيما وأن عودتي إلى وطني تزامنت مع أزمته السياسية الخانقة التي انعكست سلبا على استقرار المدارس ، ولهذا كنت خائفا من تدهور مستواي التعليمي في ظل هذه الظروف ، فكانت النموذجية الأمل المنشود ، كما إن لدي رغبة ملحة في منافسة زملائي المتفوقين اليمنيين بدلا من الأردنيين ، ولم يساورني أدنى شك في رفضي؛ لأن الشروط المطلوبة متوفرة لدي، كما كان يبدو لي ولأهلي ولكل من يعرفني ، فكانت الصدمة الأولى عندما رفضت من الالتحاق  بهذه المدرسة ؛ معتذرين لي أنه لم يتوفر في شرط واحد ؛ وهو دراستي الصفين الأول والثاني ثانوي داخل هذه المدرسة ، هذا هو الشرط الوحيد الذي حرمني من الدراسة في نموذجية المكلا ونموذجية سيؤن معا ، فصرخت وصرخ أهلي ، وحاولت وحاول والدي أن يجد استثناء يخرجني من هذا الشرط ، ليس عن طريق الوساطة والمحسوبية ، ولكن لأنني أهل في أن أكون من طلاب هذه المدرسة لاسيما وأني خريج مدارس الأردن الدولة المتقدمة في التعليم القوية في المناهج مقارنة بمدارس اليمن ، ولكن كل المحاولات باءت بالفشل، توسلت لهم : اختبروني ، امتحنوا قدراتي ومعلوماتي ، قفوا على مؤهلاتي بأي طريقة ترونها مناسبة ، لم يستجيبوا لطلبي ، وكأن هذا الشرط شرع منزل من عند الله لا يمكن مخالفته تحت أي ظرف ، واستسلمت للأمر الواقع ، وبحثت عن مدرسة ثانوية بديلة ، وبعد مشاورات مع أهل البلد ، كان نصيبي في مدرسة ابن سيناء في فوة ، قيل أنها الأفضل لأن كل المدارس الحكومية سواء ، وإن كان هناك مدرسة مستقرة في المنطقة فهي ثانوية بنات وليس بنين ، وللمدارس الخاصة عيوبها.

وبدأت العام الدراسي بكل ما فيه من منغصات وصدمات ، الدراسة مرتبكة ، والمعلمون غير قادرين على العطاء لعدم استقرار الأوضاع ، كل يوم مظاهرات وفوضى وإخراج الطلبة من صفوفهم بالقوة ورجوع إلى البيت بعد ساعة من الخروج ، شعرت بالحزن والإحباط  والقلق على مستواي التعليمي ، لمست نفس شعور الخوف والقلق لدى والديَ ، وجدت وأنا في الحالة تلك أن في نفسي غصة وفي جوفي حسرة  وفي قلبي ألم كلما سمعت أو شاهدت خبرا على النت يتحدث عن مدى العناية والاهتمام بطلبة المدارس النموذجية من قبل القائمين عليها ، مقارنا ذلك بنفسي ووضعي وحالي ، ضقت ، تألمت ، بكيت دون جدوى،  وأخيرا توجهت إلى الله سبحانه وتعالى أن يخرجني من هذا المأزق وهذا الشعور القاتل ، فاستجاب لدعائي ، حيث قررت بتشجيع من أسرتي ألا استسلم لواقعي المرير، وأن أواجه الصعاب وأبذل أقصى ما يمكنني  لأتغلب على كل مشكلاتي ، واعتمد على نفسي وجهدي أكثر من اعتمادي على المدرسة ، أحافظ على مستواي وأنال المراتب العليا على مستوى الجمهورية ، مثبتا لكل من كان في وسعه مساعدتي ولم يبذل جهدا في إزاحة العراقيل عن طريقي - رغم تميزي - أنه مخطيء ، وأنني صاحب حق منتزع ساهم في انتزاعه ، واتخذت الفكرة عندي منحى التحدي المحمود الذي يوصل للهدف ويمنع من الهبوط في هاوية اليأس ، داومت على حضور جميع الحصص المتاحة في المدرسة حتى لا يفوتني شيء رغم المظاهرات شبه اليومية ، تفرغت للدراسة المكثفة والمستمرة في البيت من وقت مبكر من السنة ، استعنت بأساتذة من مدرسي النموذجية وغيرها لشرح بعض المواد الصعبة في الفترة المسائية - أحيانا عصرا وأحيانا من بعد المغرب إلى العاشرة مساء - حضرت الامتحانات الشهرية والتجريبية فكانت نتائجي مشرفة معظمها درجات كاملة ، عرفني الطلبة ، وأشاد بي المدرسون ، شعروا بتفوقي وجدي ومثابرتي.. بدأت الامتحانات النهائية تقترب ، لاحظت أن كثيرا من الطلبة في الصف غير راغبين في بذل جهد في المذاكرة ، تعجبت! سألت: كيف سينجح هؤلاء ؟ قيل لي: إن امتحانات الثانوية في كل المدارس مسموح فيها بالغش منذ سنوات ، صدمت ، ذهلت ، ومما زاد ذهولي وقلقي أن أخبرني بعض الزملاء لاحقا أنهم معتمدون علي بإعطائهم إجاباتي الصحيحة أثناء الامتحان ، صعقت ، خفت ، لأنني لا أحب الغش ، ولن اسمح بالغش ، ثم كيف سيتميز الطالب المجتهد من الغشاش ، والمقلق كيف  سأتصرف وأنا أحتاج لكل دقيقة من وقت الامتحان في التفكير والكتابة والمراجعة؟ إن ما يطلبونه سيربكني ، وربما لا استطيع الوقوف على الإجابة الصحيحة لنفسي فكيف لغيري؟ ثم إن فكرة الغش ممقوتة ومرفوضة شرعا وقانونا ، ومكشوفة إن عاجلا أو آجلا ، ما الذي جرى لأبناء حضرموت ، كيف يرتضون لأنفسهم هذا الخلق الدني ليجعلوه عرفا مقبولا ؟ وعدت إلى القلق والإحباط مرة أخرى ، عدت إلى ذكرياتي الحزينة عند رفضي من قبل القائمين على المدارس النموذجية في المحافظة ، فلو كنت من ضمن طلبتها لما تعرضت لمثل هذه المواقف ، وبدأ اليأس يدب في أوصالي مرة أخرى ، فتذكرت ذلك القرار المفعم بالتحدي ، ولجأت إلى الله طالبا منه العون والقدرة على تخطي الصعاب ، مستعينا في ذلك بدعاء الوالدين ومشورتهم.

وجاء اليوم الأول من الامتحانات ، ورأيت من أنواع الغش ما يذهل له العقل ، وتشمئز منه النفس ، فهو متاح بكل صوره لمن أراد ، فالكتب فتحها ممكنا ، والإجابات تأتي جاهزة من خارج القاعة ، والأوراق تتطاير من طالب إلى آخر ، والأصوات تعلو ، إلا أن بعض  الطلبة في الصف أراد الاعتماد على نفسه  فلم يعر الغش اهتماما وإن كان متاحا ، لاسيما وأن كثيرا من المواد كانت امتحاناتها معقولة ، فكل من اهتم بالمذاكرة يستطيع الإجابة على معظم أسئلتها ، فلا يحتاج للغش إلا من تعود أو اعتمد كليا عليه وهم للأسف كثر، أما أنا فانشغلت بقراءة ورقة الأسئلة ثم انكببت أكتب إجاباتي دون الالتفات إلى أحد ، وبدأت محاولات بعض الزملاء في مشاغلتي لمعرفة إجابة بعض الأسئلة إلا أنهم لم يجدوا مني إلا الصد قدر الإمكان ، وأحيانا يأتيني المراقب نفسه بورقة يطلب مني أن أكتب إجابة أسئلة معينة ، فارفض بشدة ، فإن ألح كتبت له أطراف الجواب بهدف صرفه عني ، وهكذا حافظت على هدوئي وتركيزي في القاعة طيلة أيام الامتحان دون أن أترك المجال لأحد في إرباكي. 

وانتهت أيام الامتحان بتعبها وسهرها وقلقها ، وكنت سعيدا وراضيا كل الرضا عن إجاباتي ، فمعظم المواد أجبت فيها إجابات كاملة ، لم يفتني فيها شيء محسوس ، عدا يوم الرياضيات ( الجبر والهندسة ) كانت بعض أسئلة الامتحان فيها غموض وأخطاء وقع فيها واضعوا الامتحان أنفسهم ، اشتكى منه طلبة كل المدارس بما فيهم النموذجية ، فشعرت بأنه قد تفوتني في هذا المقرر درجات تعد بأصابع اليد الواحدة ، وكان عزائي أنها ليست مقررا كاملا فأنا أستطيع التعويض في الجزء الثاني منها ( التفاضل والتكامل ) وكذلك في بقية المقررات.

وبدأت الإجازة وجاء رمضان وكلي شوق ليوم إعلان النتائج فقد كنت متيقنا بان معدلي لن يقل عن 98% ، فهذا ثمرة اجتهادي ومثابرتي وتشجيع والدي وتعبهما ومساندتهما لي طوال السنة  وجاءت النتيجة بعد طول انتظار، قاسية مؤلمة محبطة للآمال 92 %  فقط  ، رددت مذهولا مرددا: لا لا ليست هذه نتيجتي! أمر ما حدث أثناء التصحيح ، هذا ظلم! افتحوا أوراق إجاباتي ، كلها إجابات صحيحة ! ما الذي جعلني أخسر أكثر من خمسين درجة ؟ أكيد خطأ في النتيجة! ليست نتيجتي! ثم التزمت الصمت المخيف ، أغلقت جوالي ، لم أرد على مكالمات زملائي ، لم يخرجني من صمتي إلا دموع والدتي التي ذرفتها حرقة على حالي ، وإحساسا منها بما وقع علي من ظلم ، وخيبة لها في تحقيق أملها وأملي ، داعية الله أن يجازي كل من كان سببا فيما آلت إليه نتيجتي ، أحسست بان ما فعلت خفف عني ، شعرت بان أحدا يشاركني حزني ، فصار همي هو أن أخفف عنها وأواسيها ، فقلت لها: احمدي الله ، 92 % ليست هينة ، ولن تؤثر في مستقبلي واختيار الجامعة والتخصص الذي أريد ،  فنحن نسمع أن لخبطة الامتحانات العامة قد تجعل المتفوق راسبا ، وكففنا دموعنا ، اتصل والدي بمدير المدرسة يسأله عن السبب فأخبره بأن التصحيح يكون من ثمانين درجة فقط أما العشرين فتتحكم فيها الوزارة ، على أي أساس تعطى هذه العشرين في المائة لا أدري ، ذهب والدي أيضا إلى مدير مكتب وزارة التربية والتعليم بالمحافظة يتظلم ويطلب إعادة النظر في ما آلت إليه نتيجتي ، طلب منه معرفة كم كانت نتيجة التصحيح  من ثمانين ، وكم أعطتني الوزارة من العشرين في كل مقرر ، أخبره بان ذلك لم يعد ممكنا ؛ لأن النتائج أرسلت إلى الوزارة بصنعاء وليس بيدهم شيء ، فما كان  بيدي إلا الاستسلام والاعتراف بأنني خسرت التحدي ، فانا لست ضمن أوائل الجمهورية ولا المحافظة ولا حتى على مستوى الساحل ، لم يعرفني أحد ، ولم أبرز، ولم أثبت لمن لم يقدروا ظرفي تفوقي ، علمت فيما بعد أن أعلى نسبة تحصل عليها طلبة مدرستي هي 92% ،  كما أنه قيل لي – والله يعلم مدى صحة هذا القول  – أنه في التصحيح يخصم من بعض المدارس المشهورة بالفوضى وكثرة الغش - ومن ضمنها ثانوية ابن سيناء - خمس درجات من الثمانين علامة لكل طالب دون استثناء من كل مقرر ، بمعنى أن كل طالب في هذه المدارس لن يتحصل على أكثر من 75 من 80 في كل مادة مهما كانت صحة إجاباته - أي خصم أربعين درجة ابتداء من مجموع المقررات - ثم يعطى له من العشرين في المائة نسبة تقابل ما تحصل عليه في المادة  بعد الخصم ، فعلا؛  فما يجعلني أميل إلى تصديق هذا القول أن فيه تفسير لسبب خسارتي أكثر من خمسين درجة ، ثم  إن  النسب والمراتب العليا لم يتحصل عليها إلا طلبة النموذجية آو ثانويات معينة للبنات ، فهذه - حسب القول السابق -  لم يشملها الخصم ، يا للعجب ! كأن الطلبة المتفوقين لا يمكن أن يكونوا إلا  ضمن هذه المدارس ، أما غيرها فطلبتها كلهم رعاع غشاشين مهما كان مستواهم وخلفياتهم ، ومهما نبذوا الغش وبذلوا الجهد ، فكل هذا  يمر هباء منثورا ، أليس هذا ظلما؟ وما ذنبي أنا وذنب غيري من المتفوقين في هذه المدارس الذين أجبرتهم ظروفهم على الدراسة فيها ، والذين رفضوا الغش واعتمدوا على مستواهم الحقيقي؟ ثم كيف تعاقبون الذين غشوا وأنتم أيها القائمون على الامتحانات من أكبركم إلى أصغركم من سمح بذلك ، لأن الغش واقع علنا في كل مدارس الجمهورية عامة ،  ومدارس المحافظة خاصة - دون استثناء - بنسب متفاوتة ، تحت مرأى ومسمع منكم ، دون أن تمنعوه أو تحاولوا تحريك ساكن ، آلآن وقد اختلطت أوراق إجابات الطلبة المجتهدين وغير المجتهدين ، الغشاشين والكارهين للغش، تحاسبون بالجملة  لأنكم لا تستطيعون التمييز بينهم ؟ ألا تدرون أيها التربيون أنه أن يعطى الغشاش من الدرجات ما لا يستحق أهون  ألف مرة من أن تستقطع من المستحق درجاته بدون وجه حق؟ وكلاهما خطأ ، ما ذنبي أنا في أن  أخسر التحدي النبيل الذي تحملت وأهلي المشاق لمدة عام كامل من أجل أن أظفر به ، لاصطدم في نهاية المشوار بصخرة التخبط في التصحيح التي ليس بيدي دفعها لتحطم كل آمالي وطموحاتي؟ ، لماذا أتجرع مرة أخرى شعور الألم والحسرة عندما أرى الأوائل وهم يكرمون ، ويشجعون ، ويجتمع بهم ، ويشاد بجهودهم وتميزهم ، ويحصدون أنفس الجوائز وأهم المنح الدراسية ، ولم أكن من ضمنهم ؟ هل ذنبي أنني لم أقبل في الثانوية النموذجية التي نال طلبتها أعلى المراتب بعد تذليل كل الصعاب أمامهم وحملهم على كفوف الراحة؟ ولماذا لم تقبلني النموذجية؟ ماذا كان ينقصني؟ تذكرت! ينقصني أنني لم أدرس المستويين الأول والثاني الثانوي بين جدرانها وعلى مقاعدها ، ولم يشفع لي أنني كنت متفوقا في ثانويات دولة مشهود لها بتقدم تعليمها وقوة  مقرراتها ورصانة مناهجها ( الأردن) ،  فعلى الله العوض.

بقلم الدكتورة : أم عبدالرحمن

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص