حضرموت اليوم / المكلا / محمد علي باحميد :
تغمر اليوم كل الأدباء والكتاب والمثقفين والقراء كافة وأصدقاء الكتاب عامة في حضرموت البهجة والفرحة بإشعال الشمعة الخامسة والعشرين احتفاء بمرور ربع قرن بالتمام على افتتاح مكتبة الحياة المعرض الدائم للكتاب، وانقضاء خمسة عشر عاماً على تأسيس دار حضرموت للدراسات والنشر والتي تعنى بالكتاب الثقافي الحضرمي بشكل خاص والكتاب الثقافي اليمني بشكل عام لصاحبهما الأديب والشاعر الأستاذ / سالم عبدالله بن سلمان، ولا يزالان حتى اليوم يباشران رسالتهما الثقافية حيث انبثقت عن دار حضرموت مجلته الفصلية المرموقة (حضرموت) والتي يشارك في الكتابة فيها نخبة من كتاب وأدباء محافظتنا المعطاءة .
لقد حقق الأستاذ بن سلمان نجاحاً فذاً باهراً خلال مسيرته الثقافية، حيث أسهم من خلال معرضه الدائم للكتاب في استعادة وتعميق عادة القراءة لدى أجيالنا، ومن خلال دار حضرموت للدراسات والنشر مهد السبيل أمام كل الكتاب والباحثين لترى كتبهم ومؤلفاتهم النور، ويقرأها الناس، متحدياً كل الصعوبات التي واجهته في أداء رسالته واعترضت طريقه.
إن ولادة معرض الحياة الدائم للكتاب انطلقت من (كشك صغير) اتخذ موقعه في ساحة (الجابية) أمام مقبرة يعقوب بالمكلا، ثم نهض ونما وصار (مكتبة) متواضعة على الشارع الرئيسي عرفت باسم (مكتبة الحياة) وأذكر هنا أنني وقفت يوماً ومعي أحد الزملاء أمام نافذة ذلك الكشك حيث كنا نحضر دورة تعليمية بالمكلا، وبدأت أنا وزميلي نقلب ونتصفح تلك المجلات والصحف الرابضة عند نافذة الكشك، فإذا بالأستاذ بن سلمان ينهرنا ويمنعنا من التصفح وتقطيبة الاستنكار والغضب تجلل محياه، فأدرنا له ظهرانينا ومفردات السباب والشتم تنهال عليه في داخلنا .
ثم زرته في (مكتبة الحياة) بعد سنوات ولكني لم أنسج معه بعد خيوط الصداقة والعلاقة معه، بل بدأت العلاقة الحميمية بيني وبينه وتعرفت عليه عن كثب عندما أسس معرض الحياة الدائم للكتاب في الشارع الخلفي لمدينة المكلا قرب مسجد (مشهور) الذي يقف في نهايته وهو مسجد ذاو طابع خاص .
إن معرض الحياة الدائم للكتاب يهدف إلى الاهتمام بأكبر شريحة ممكنة من القراء والمثقفين، فالمعرض اليوم يعج بأعداد هائلة من الكتب والمؤلفات المختلفة والمتنوعة في موضوعاتها وتناولاتها، كما يعمل على توفير كافة المراجع والمصادر للباحثين والأكاديميين .
لقد راودت الأستاذ بن سلمان فكرة فتح فرع لمعرض الحياة الدائم للكتاب في مدينة سيئون لكنني أثنيته وصددته عن تنفيذها لأنني أنا ابن هذه المدينة أعرف جيداً ضعف الإقبال على شراء الكتاب، بل لا يوجد هناك شغف ملحوظ لاقتنائه، بل تجذرت القاعدة الأساسية والتي اعتنقت من قبل الكثير وهي (الثرثرة أولاً .. القراءة آخراً) والثرثرة كما تقول الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان : (هي سمة التخلف في المجتمعات التي لا تقرأ)، وخير دليل أسوقه على هذا أنه قام صاحب مكتبة تريم الحديثة بفتح فرع له في سيئون على أحد جانبي شارع الجزائر، وما لبث على فتحه أشهر معدودات إلا وبه يغلقه وظل مغلقاً حتى اليوم ولم يبق له من أثر إلا اليافطة التي بقيت على واجهته والتي أصبحت تحمل اسماً على غير مسمى .
إنني أحسدكم يا أبناء مدينة المكلا، يا أحفاد (المكتبة السلطانية) بمسجد عمر، و(المكتبة الوطنية) لصاحبها أحمد سعيد حداد، و(مكتبة الشعب) لصاحبها الصافي على انتشار المكتبات عندكم .. فالمكتبة هي المدرسة الكبرى والقراءة هي الغذاء الفكري لكل إنسان من أجل تحسين سلوكه وقيمه، فقد قال أحد الفلاسفة : (إذا امتنعت عن القراءة ثلاثة أيام لا أحسن محادثة الناس)، وبالفعل إذا ابتعد الإنسان عن الكتاب لفترة محدودة شعر بالتبلد وعدم القدرة على التعبير كما يجب .
دائماً ما يتردد على مكتب الأستاذ بن سلمان العديد من الأدباء والكتاب والأساتذة الجامعيين من داخل مدينة المكلا وخارجها، وفي بعض الأماسي تتكون دائرة من الحضور في مكتبه على شكل ندوة لا تحدد لك تلك الدائرة بطبيعتها من هو رئيسها، يتجاذبون أطراف الحديث ومن هنا ومن هناك، ويتم من خلال هذا اللقاء العفوي ومن غير ميعاد التعارف بين الحضور إذ أن البعض منهم يسمع باسم البعض الآخر ولكن لم يسبق لهم أن تعارفوا بشحومهم ولحومهم، ولا يقطع استمرار هذه الجلسات الطارئة إلا (صوت الحق) عندما يرفع من مآذن مساجد المكلا يدعو الناس إلى الصلاة .
عندما أختلي بالأستاذ بن سلمان ونصبح وجهاً لوجه لا ثالث بيننا يتطرق الأستاذ بن سلمان إلى بعض الذكريات، فكثيراً ما حدثني عن شابين اختارهما الموت مبكراً وكان يرجى من ورائهما خير كثير لو امتد بهما العمر، هما الدكتور سعيد محمد دحي الذي ربطتني به علاقة صداقة قصيرة، والأستاذ فرج جامع السنوسي الذي قرأت مقالاته التي كان ينشرها على صفحات صحيفة (الطليعة) لصاحبها أحمد عوض باوزير عليه رحمة الله، ثم تعرفت عليه بنحافته وطوله وسمرته عندما جمعتني به الدورات السياسية للمعلمين في السبعينيات والتي أصدرت فيها معه ومع بعض الزملاء النشرة الخاصة بها والتي أسميناها (المعلم الاشتراكي)، وكنا نبتسم معاً من هذه التسمية لأننا وضعناها من قبيل المزايدة السياسية التي تتطلبها تلك المرحلة من كل فرد .
إننا اليوم نجد أنفسنا في شكوى دائمة مما آل إليه وضع الكتاب عند أجيالنا وعدم إقبالهم عليه، شكوى يضج بها الآباء والمعلمون، وتعبر عنها بصورة واضحة الأعداد الكبيرة من الخريجين الذين لا يلتفتون إلى الكتاب بل يديرون ظهورهم له للأسف الشديد، وبجولة سريعة على المكتبات العامة للقراءة في المدن ستجدها خاوية خالية من القراء إلا من رحم ربي وهؤلاء لا تتجاوز أعدادهم عدد أصابع اليد الواحدة .
نحن بأمس الحاجة إلى بيئة مناسبة لأبنائنا في مدارسنا تدفعهم نحو الكتاب وحب القراءة وتحفيزهم نحوها، فأنا أجدها فرصة للتعبير عن عظيم امتناني وتقديري لأساتذتي المخلصين في المراحل التعليمية الابتدائية والمتوسطة والثانوية الذين زرعوا فينا الروح الوثابة نحو الكتاب واقتنائه وتبادله، فهم يرون أن التعليم إن صلح شأنه صلحت أجيالنا ثم شئوننا كلها .
في ختام هذه المقالة تذكرت أن الاحتفال اليوم بذكرى ولادة معرض الحياة الدائم للكتاب ودار حضرموت للدراسات والنشر جاء متوافقاً مع الذكرى السابعة والعشرين لانعقاد مهرجان الأديب علي أحمد باكثير الأول بسيئون، وذلك في ديسمبر من عام 1985م، ولقد اهتم الأستاذ بن سلمان كثيراً بمؤلفات باكثير وكل الكتب الصادرة لمؤلفين كثر عنه، وحرص على وجودها وتوفيرها بمعرضه الدائم للكتاب لتكون في متناول محبي باكثير وقرائه لتروي غليلهم .