عندما تسقط ورقة من شجرة حضرموت الباسقة من أي غصن منها أشعر بحزن وألم شديدين ، فقد أوشك أن يشح النبع المتدفق النقي الذي لطالما ارتوت منه الواحة الحضرمية الغناء التي تفيأ ظلالها الوارف و قطف من ثمارها كل قاصد وعابر سبيل، قاص و دان. اليوم سقطت ورقت من هذه الشجرة التي لا نبرح أن ننظر إليها نظرة إعجاب وإكبار و انتماء بقلوب مفعمة بالحب لها و لأصولها العريقة , ملئت من تاريخنا نحو سبعة عقود.
هذا ما تبادر إلى ذهني عندما تلقيت نبأ وفاة البحاثة الجليل الكريم المكرم الأستاذ/ عبدالرحمن بن عبدالكريم الملاحي _ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته _ فقد غلب اتصالي الروحي به أكثر من التواصل السمعي و البصري ، ولعمق و سمو خاصية هذا النوع من التواصل في جل جوارح الإنسان فقد تجذرت له في سويداء قلبي محبته، وتأثرت به كثيرا لتعدد المناقب المتواترة في هذه الأسرة الكريمة أب عن أب .
وقد برهن الراحل رسوخ هذه الأسرة في محاريب العبادة المختلفة لاقتفائه آثارها في عصر تبدلت فيه الألوان الأخضر بالأصفر! لكن شيخنا الجليل ظل شامخا كشموخ الجبال يواجه أعاصير الزمن الرديء ، ولفحات سمومه الحارقة و لوثات العقول المارجة التي سكرت حينها حتى الثمالة من عارض كزبيبة ، نحسب أنه لابد أن يزول يوما.
الملاحي هو فرع لمدرسة حضرمية أصيلة ، كان شخصية مخضرمة و همزة وصل بين أكثر من جيل و لأكثر من مذهب فكري ، تحمل عبئا كبيرا عندما تسلم رسالته الإنسانية المتوارثة من أسلافه في بيئة تتلهف بفطرتها و تتلقف بشغف هذا الهم الإنساني ، حتى سلمها فقيدنا رحمه الله بأمانة وجهد مضن و عمل دؤوب وإنكار ذات إلى أجيال كادت أن تقلب ظهر المجن على كل رسول من الماضي وعلى كل موروث.
هنا تكمن أهمية هذا الشيخ الجليل؛ فقد كان - رحمه الله - ملاحا حاذقا أخرج السفينة التي أوشكت أن تتوه في عواصف الغي الهائجة ، و التيه الفكري ، والتمرد على الذات الحضرمية و الهوية والانتماء ؛ حتى رسا بها بنجاح إلى مرفأ الأمان حيث المدرسة الحضرمية الأصيلة , وليس أدل على ذلك من قدرته التي ورثها من عراقة أسرته و عمق فهمه ورحابة صدره وتبسطه على جمع النخب الفكرية و الأكاديمية في حضرة التاريخ والتراث الحضرمي، فأصبح قِبلة لهم ولكل متعطش إلى النبع الصافي من حضرموت وخارجها.
الأستاذ الملاحي أنموذج للشخصية الحضرمية التي نتمنى أن تبقى في الأجيال القادمة ، و قد سعى مركز ابن عبيد الله السقاف لخدمة التراث والمجتمع إلى تقديم شيء من فروض الوفاء و العرفان أواخر عام 2007م؛ حيث حصل المركز على شرف تكريم هذه القامة في أثناء حياته التي نذرها لما يجري في عروقه وما سكن في كل مسام وجارحة فيه ، الأمر الذي نحسب أنه تكريم للقيم والفضيلة ، و للأرض و الإنسان ، وللماضي والحاضر, ولكل محبيه .
رحم الله فقيد الضمير الحضرمي ملاحنا الحاذق الأستاذ / عبدالرحمن الملاحي. ونسأل الله أن يلهمنا جميعاً وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان، وإن لله وإنا إليه راجعون.
بقلم : محمد بن حسن السقاف
رئيس مركز ابن عبيدالله السقاف لخدمة التراث والمجتمع