حضرموت اليوم / المكلا / راضي صبيح:
على بعد أمتار من منتجع خور المكلا السياحي وجدتها مع ستة من أطفالها تفترش الرصيف وبجانبها أدوات وأوعية للأكل.
تشير الساعة إلى الثانية عشر ليلاً ، كنت امشي بالقرب من ذلك المكان ، فجأة شد انتباهي منظر أم وحولها طفلتان ، مشيت لأقترب أكثر من قصة هذه الأم وأطفالها الذين تلفحهم نيران الحر الشديد.
أم يوسف لها من الأبناء "ستة" يوسف "13" وجواهر "12" زهرة"10"فاطمة "9"ريم"7"وأصالة "6"، سألتها أين يوسف جواهر وفاطمة وريم...أجابت... جواهر و زهرة تحت تلك الصيدلية ويوسف وفاطمة جالسون تحت ذلك السوبر ماركت يجمعون معي بعض الريالات التي نسد بها مصاريف الحياة.
تقول إن لها عشر سنوات وهي تقضي مع أطفالها إلى الساعة الواحدة ليلاً على رصيف الشارع تبحث عن دخل تسد به تكاليف الحياة .
تلجأ إلى إشعال النار من حولها في أطباق البيض لتبعد وتقي نفسها لسعات البعوض ولتطيل أمد البقاء بحثاُ عن ريالات دون مراعاة لمشاعر أطفالها ، بالقرب منها علبة ماء للشرب وأخرى للشاي وعلب صحة ومشروبات غازية مما يجمعه أبناءها الستة .
تضيف الأم أنها هربت من جبل برع بالحديدة بعد أن لاقت صعوبة في العيش وصفته بالموت البطيء ،"أحمل المياه على ظهري في الجبل حياة صعبة".
رب الأسرة يمتلك سيارة .. مهمته الذهاب والرجوع
كنت أتوقع أن رب الأسرة قد وافاه الأجل أو كان مقعداً على الفراش حتى تلجأ زوجته مع أبناءها لتفترش الرصيف وتبحث عن قمة العيش ، سألت البنت الأصغر "أصالة" أين أبوك قالت ذهب بالسيارة إلى البيت .. عندها توقفت قليلاً، عدت إلى أم يوسف تمتلكون بيتاَ قالت "مستأجرين شقة بـ"13" ألف ريال" لماذا لا يعمل الزوج قالت"انه مختل عقلياً وعنده بعض الأمراض مثل البواسير حد قولها وأنها لا تسطيع أن توفر مبالغ أجراء عملية جراحية له.
سألنا أحد جيران أم يوسف أجابوا أن الزوج لا يعاني من أي مرض وأنه يمتلك سيارة مهمته توصيل الزوجة مع ابناءها الستة إلى مكان التسول والبحث عن المال عن طريق مد اليد في حكاية تتكرر يومياً.
في اليوم الأول وجدت سيارته حسب وصف من يعرفه في حدود الساعة الواحدة ليلاً بجانبهم ، وفي اليوم الذي يليها ، كان احد المارة يتحدث مع الزوجة وسيارة الزوج متوقفة على بعد بضع أمتار عن مكان الزوجة حيث حان وقت الرحيل والساعة تشير إلى الواحدة ليلاً ، أما في اليوم الثالث مريت على المكان في حدود الساعة الثامنة مساء ، شاهدت السيارة وصلت إلى المكان والأطفال مع أمهم يخرجون منها .
تغفل الدولة والجهات المعنية عن التتبع ومعرفة الحقيقة حول قصة ومأساة أم يوسف وزوجها وأطفالها الستة ... الذين أضحوا يقضون ساعات طويلة ليلاً في ممارسة التسول الذي يجعل منهم عرضة للاستغلال والاعتداء من قبل بعض المارة.
في اليمن والذي ترتفع نسب عمالة وتشرد الأطفال بشكل كارثي فقد كشفت دراسة حكومية أن نحو (700) ألف طفل يعملون ويتسولون في الشوارع تتركز غالبيتهم في محافظة الحديدة وصنعاء (28) ألف طفل في أمانة العاصمة وحضرموت وتعز منهم (48.6%) ذكور - (51.4%) إناث يتعرض أكثر من (90%) منهم للتحرش والاعتداء الجسدي والجنسي.
لا توجد إحصائية دقيقة حول عدد أطفال الشوارع في اليمن والتقديرات هائلة جداً. وتقدر الدراسة الأخيرة لليونيسيف في اليمن لعام 2000م بأن عدد أطفال الشوارع في مدينة صنعاء بلغ 28.789 طفلاً وتتراوح أعمار معظمهم بين 12- 14 عاماً أغلبيتهم(78%- 96%) من أولاد. كماجاء في تقرير اليونيسيف: (171) مليون طفل يعملون في أوضاع وظروف محفوفة بالمخاطر مثل المناجم والتعامل مع مواد كيماوية ومبيدات وآفات في الزراعة والعمل على آلات خطيرة .
وقد أشارت دراسة أعدها المجلس الأعلى للأمومة والطفولة التابع للحكومة اليمنية ، وبتمويل من المجلس العربي للطفولة والتنمية
واستنتجت الدراسة أن الأسباب التي تؤدي إلى ظاهرة لجوء الأطفال إلى الشوارع تتمثل في الهجرة من القرية إلى المدينة وانتشار الفقر والبطالة وكثرة الإنجاب وانعدام الخدمات الاجتماعية وتخلي الدولة عن دعم الفقراء.
وأشار فؤاد الصلاحي ، رئيس فريق البحث حينها الذي قام بإعداد وتنفيذ هذه الدراسة، أن الأطفال، الذين اضطر العديد منهم لمغادرة محافظاته الأصلية للوصول إلى المدن الكبرى، يعتبرون الشارع منقذا لهم ويشعرون بالإحباط وخيبة الأمل تجاه نظرة الاحتقار التي عادة ما يوليها المجتمع لأنشطتهم.
وأوضح أن "98 بالمائة من أطفال الشوارع في محافظة حضرموت [مثلا]، قدموا أصلا من محافظات أخرى، أما في عدن فإن نسبة أطفال الشوارع القادمين من محافظات أخرى تشكل 70 بالمائة من مجموع أطفال الشوارع في المحافظة".
المأساة تتكشف أكثر
طلبت الأم من ابنتها الصغيرة أصالة أن تذهب إلى يوسف حيث السوبر ماركت الذي يبعد عشرات الأمتار منها لكي يأتي إليها ..كما طلبت من ريم ان تذهب إلى المكان التي تجلس فيه جواهر وأخته أن تأتي لتأكد لي ان ابناءها ستة ولتكشف لي حجم الفاجعة الكبيرة .
وصل يوسف وهو يحمل شوالة بداخلها علب الصحة والمشروبات الغازية وآثار التعب عليه ، تحدثت معه وقي حدقات عينه مأساة لا يستطيع أن يتحدث عنها بشجاعة ....حسب قول الأم أن يوسف يقول لها عندما تطلب منها أن يذهب إلى بوابة السوبر ماركت"أمي بعض الناس يقهرني ويقول لي لماذا لا تعمل".
وصلت البنت الأكبر جواهر كانت جلابيب الاستحياء بادية عليها والساعة تشير إلى الثانية عشر والنصف ليلاً قالت لأمها "أنتهينا اليوم أو نعود مرة أخرى " أجابت الأم ستذهبني بعد قليل.
تشير الأم انها لجأت إلى إخراج ابناءها إلى الشارع بسبب ظروفها المعيشية حيث واصلت حديثها "أنا لا احصل على مساعدات الشؤون الاجتماعية ولا الجمعيات الخيرية .
مريت في اليوم الرابع بجانب الصيدلية التي تجلس تحت بابها جواهر وزهرة فإذا بي أشاهد مشهد يجسد حجم المعاناة والكارثة التي يعانيها أطفال أم يوسف ...رأيت جواهر وهي تكتب واجباتها المدرسية تحت بوابة الصيدلية وكانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ليلاً.
أمل وحلم بالخلاص
حكى لي يوسف وأصالة بحرقة وألم شديد من واقع مرير يتكرر يومياً ... وأحلامهم في إنتظار فرج وخلاص من مشهد بات مقلقاً ويبعث في نفوس اطفال ام يوسف أن الحياة رصيف نفترشه لجمع ريالات لسد تكاليف الحياة .
أم يوسف واطفالها الستة أكبرهم جواهر وأصغرهم أصالة .. قصة يومية تتجسد في واقعا أضحى مؤلماً لأطفال في عمر الزهور أصبحوا بين عشية وضحاها أصدقاء لرصيف الشارع .
تتمنى أم يوسف لأبنائها الذين تحرص عليهم في الذهاب إلى المدرسة ان يتخلصوا من هذا الواقع المرير الذي تقول انه فرض عليها بسبب وضع زوجها ، وأن يأتي وقت تذهب بهم إلى الحديقة والمنتزه بدلاّ من رصيف الشارع وحره.
"أصالة"تضحك وفي نظرات عينها نريد الخلاص من هذا المكان نريد أن نلعب مثل بقية الأطفال ... يوسف ينظر إلي في ابتسامة عندما قلت له ... تريد وتتمنى الخلاص من هذا الوضع والمشهد اليومي المتكرر أجاب نعم وهو يضحك ...أصالة تعاود الحديث فجأة تقول أريد خاتم وسلس.. ولسان حالها لتكون أجمل أجمل وضميرها يحكي لي.. لنحس بمعنى الحياة والطفولة .
النزول الميداني لدورة الكتابة الإحترافية في قضايا الطفولة - اليونيسف - نقابة الصحفيين اليمنيين