قتل ابن حبريش الدرس الأخير و جس نبض لقادم مجهول!؟

تصفية النخب العسكرية والأمنية والاجتماعية والقيادات الحضرمية مشروع كبير تبنته قوى محلية و إقليمية و ينفذه المقاول الدموي من و في الداخل , فالمشهد الدموي في حضرموت صنعته عوامل عدة و تستفيد منه أطراف محدودة أدناها رتبة وأهمها هي عنصر العملاء السريين المرتزقة وهؤلاء دوماً يكونوا من أبناء المنطقة وممن يعرفون بيئتهم الاجتماعية والهدف جيداً, وقطعاً يكون هؤلاء غالباً من خريجي المدارس الحزبية المستوردة المتقنعة والمنتمية بولائها لعواصم مختلفة بكل مذاهبها الفكرية والايدلوجية المتوغلة في ادمغتهم حتى النخاع , القائمة على أساساً خيانة الدين والوطن والإنسانية والقيم , وما عملية السحل التي صدم بها و أوجمت المجتمع الحضرمي عام 1973 م إلاّ الدورة التدريبية الأولى لما هو قادم , وهي أيضاً رسالة عرض تسويقية مفتوحة موجهة لقوى الشر المتعطشة لاستعباد وإبادة الشعب الحضرمي ونهب ثرواته من قاعدة ( الغاية تبرر الوسيلة ) بدافع  الغرائز والخصومة الأزلية.

ولمعرفة الواقع واستشراف القادم لابد من معرفة خلفية وحقيقة الواقع , وعن حقيقة البداية فبأي حال نؤكد بأن البداية القاصمة انطلقت من تلك المحطة وذلك الحدث الإرهابي المرعب والغريب عن الأرض والفطرة الإنسانية, فبعدها تم الترويج والتسويق  لتجارة و مقاولة الإرهاب و سفك الدماء وقمع الشعب الحضرمي الأبي, وما بعد ذلك فهو تناسل ممتد إلى تلك الحادثة المشؤومة وعناصرها المتعطشة للسلطة ولو كان الثمن هو الدم والعرض والشرف وحرق الوطن الحضرمي بكامله , بهذا هم قد فتحوا بوابة حضرموت المنيعة لشهية الغزاة و قوى الشر المحلية والاقليمية والعالمية فتبنت عاليها سافلها وانتشلت بعضهم من غياهب السجون و التشرد والملاحقات القضائية والانتقام من ذوي الضحايا , و من المؤكد أن تلك القوى أسهمت في دعم قوي لا حدود له لتلك العصابات تمثل في تأهيل وتطوير تلك العناصر الدموية واذكاء طموحاتهم وتوسيع أهدافهم وآلياتها فقامت بأنشاء معسكرات التدريب في أعماق حضرموت كالتي في تورابورا مستعينة بالمطاردين و المهربين من السجون المحلية والعالمية و العائدين من ميادين الإرهاب من هنا وهناك كذلك بجيوش من خبراء عالميين في غسيل الأدمغة وبذر وتعميق الفرقة والنزاعات وتفكيك المجتمعات و صناعة الأزمات والنزعات الإرهابية و تعميق الكراهية و وغر صدور عشرات الألوف من الشباب بعد اقتناصهم من المدارس وحلقات المساجد , بعد أن نفت خطة تجويع وتركيع وإذلال لعموم المجتمع وتفكيه ليسهل عليهم التأثير على المتذمرين من واقعهم والإيقاع و الدفع بهم ما أمكن إلى حضائر الإرهاب وتسهيل مهمات المنظمين ـ المقاولين ـ بدعم استخباراتي وعسكري وفق الاجندات المعدة سلفاً في بعض العواصم بشكل لا يتعارض مع الأحداث المرتبطة بوتيرة الأحداث السياسية في المحيط, وما سوريا ومعاول هدمها عن ذلك ببعيد.

بعد هذا التقديم الذي لابد منه لفهم ما تلاه , يجد الحضرمي نفسة يهيم على وجهه و قد أوقعه هؤلاء الخونة طوال العقود الخمسة بين فكي الواقع المرير الذي أصبح فيه الأمل هلام وسراب لا يرى له أثر حتى عند المتفائلين أمثالي, وبين عبثية الطامعين به الحاقدين عليه الجاحدين لحضارته العريقة و الناهبين لثرواته وكنوزه الدفينة و المحتقرين لكيانه في كل أحواله فهم يتعاملون مع الحضرمي كأنه ( دويبة ) سهلة التطويع والانصياع حتى إلى أقرب مسلخ و أدنى درك باستسلام تام, لأن رجالات العقل و الإدراك والنخوة والحمية و الشعور بالمسؤولية التي لا يعرفها ولا يحترق بها إلا قلة قليلة ترى في مجاراة العامة والعوام انحدار و مماراة ومغامرة مجهولة العواقب, لأن تلك العقود الخمسة العجاف كرست هذه الواقع وجذرته على أيدي تلك الحفنة المتوزعين ما بين خائن مجاهر و ساذج مغرر به وحاقد منتقم, سجلهم التاريخ في أسود صفحاته, وحقيقة قد نجحت تلك الثعالب في إعداد جيل اليوم صناع هذا الواقع المرير, منذ ذلك اليوم المشؤوم , وعلى غفلة من نواطير البلاد, أصبح بعض أبناء هذه الأجيال على أتم الاستعداد والمرونة اللامحدودة لبيع كل شيء وما الوطن في عرفهم وثقافتهم إلا سلعة تباع عند أدنى عرض و أبسط ضائقة, وما المبادئ والقيم إلا أقنعة تستبدل كما تستبدل جرابات القدم, هذا هو الجيل الطلائعي وجيل الجماعات و أبناء كهوف تورابورا و جيل الثقافة المادية و النفطية التي تأخذ أكثر مما تعطي و تبدي عكس ما تخفي تماماً.

كل هذه المشاهد المتباينة في ظاهرها والمطبوخة من مقادير متقاربة في قدر واحد, لا تنتمي في الأصل و بأي حال إلى الإنسان الحضرمي وإلى أرض حضرموت لولا تلك العصابات التي عبثت بكل شيئ, وحقنت قسراً تلك المفاهيم في البعض, بوسائل عدة تارة بالحديد والنار وتارة بالترهيب والترغيب وحيناً بالقوة الاستعمارية الغازية أو الأصفر الرنان الذي تفوح منه رائحة نتنة, وقد تركت في مجملها أثرها وصداها في الأذن والعقل واللسان والفعل, فأنقلب ظهر المجن على عموم أرض حضرموت وأهلها و خاصة على الحضرمي الذي لا يستطيع تقبل و مواكبة حياة هكذا قوانين, فأصبح كل الحضارمة يعيشون  غرباء في أنفسهم وفي وطنهم كما يعيشون غربتهم في خارج وطنهم, فقد أصبح الحضرمي هو النقطة الحمراء المستهدفة في وطنه أو في مهجره, وقد حد هذا القانون الإرهابي وبدد من قيمة الشخصية الحضرمية وعطائها التاريخي المشهود واحترام الأخر لها, فتأكل تدريجيا رصيده وسمعته الذائعة الصيت بفعل نضوب النبع النقي وتكدره إن وجد وهجمات الأعداء وإعلامهم وتهميش البقية ممن علق في فكرهم وثقافتهم شيئاً من عظمة وشخوص هذه الشخصية الممتدة لذلك الماضي التليد, الذين لم يعد لهم أثر في دفة السير والقيادة لأن غالبية القيادات أصبحت من تلك الأجيال الممسوخة و المؤدلجة عقولهم وثقافاتهم, المتبجحين والمتفاخرين بولائهم لساداتهم في تلك العواصم, وهو الذي يعاملهم في العلن من منطلق الخسة والنخاسة فهم في نظره خونة لا أمان لهم, وقطعاً فان التخلص منهم أمر محتوم بانقضاء الوطر كما شهدنا ذلك كثيراَ.

التصفيات في حضرموت على أشدها و قد أوشكت على الانتهاء قائمة الفئة الأولى وهي العناصر العسكرية المشاغبة أو التي انتهت أدوارهم ومهماتهم المعهودة إليهم ليموتوا بسرهم, و بالأمس تم فتح قائمة جديدة لرجالات و أراكين المجتمع الحضرمي وقد استفتحت هذه القائمة بعنوان المجد والشرف الشيخ سعد بن حبريش و هو من ذوأبة رجالات حضرموت و من أقواهم عشيرة و شكيمة في سجاياهم وأخلاقياتهم و يشهد التاريخ بمجد أسلافه فتاريخ قبائل الحموم ورجالاتهم يعرفه من يهمه أمر حضرموت قبل غيرهم, رجال أشاوس وأهل أنفة ونجدة غرسوا و رووا بدمائهم و سلوكياتهم عمق مفاهيم قيم القبيلة الحضرمية التي لا تسكت على القذى.

وبعد صب الملايين في أفواه المطالبين بالتحقيق في اغتيال على العامري ـ رحمه الله ـ لإسكات تلك الأفواه ودفن القضية قبل أن يدفن جسده الطاهر, يأتي هذا الاختيار لهذه القامة والرمز الحضرمي الكبير, ففي ذلك عبر و دلالات بعيدة, منها جس نبض الشارع الحضرمي و معرفة مدى ما بقي من تماسك وترابط القبائل الحضرمية و إلى أي مدى بلغ تمردها على مواثيقها وعهودها وأعرافها و أحلافها التي تمتد أجل تلك المواثيق إلى أن ينقطع عقب هذه القبيلة أو تلك, كما أنه تجلت فيها أخلاقيات و شهامة ومروءة رجالها و نصوصها القوية الدامغة وكفلت الأمن والاستقرار لعموم المجتمع الحضرمي وفق ضوابط اسلامية و أخلاقية وإنسانية راقية قبل أن تلد المذاهب التكفيرية والمادية والفكرية المنحرفة والمنظمات العالمية المشبوهة, ففي ذلك الحين كانت القبيلة الحضرمية هي الدرع الحصين والخادم الأمين لعموم أبناء حضرموت ولمن على ثراها وفق أدبيات و منظومة أخلاقية راسخة و توزيع متناغم ومنسجم الأدوار بإثار يكبر بكبر الكبير مع عموم شرائح المجتمع الحضرمي الكريم, فرضته تعاليم الشريعة وطبيعة الأرض والأنسان والعقل والحكمة.

وعودة إلى موضوعنا ففي تحديد المكان والزمان لمقتل الشيخ بن حبريش هناك دلالات يطول شرحها ولكن أهم ما يعول عليه الغزاة في هذا الحدث هو معرفة مدى متانة و تماسك قبائل حضرموت والمجتمع الحضرمي ومدى انغماسهم في دوامة النعرات و العنجهية المفتعلة ومن جهة أخرى مدى غيبوبة التشتت و الانهزامية والتبعية و العبودية للرنان الأصفر ومدى اختراقهم من قبل ضعفاء النفوس ممن ينطبق عليهم وصفنا أعلاه المشتتين لكلمة الخير و المجهضين لكل أمر يحقق وحدة وتماسك أبناء حضرموت والمفسدين لكل قرار حكيم, يعيد للحضرمي ولو بعض من كرامته وشرفه المسلوب وسيادته على أرضه المنهوبة, وهم كثر نشاهدهم متطفلين في اللحظات الحرجة والأماكن الضيقة, ولذا فأن تغيير الخطة أو الاستمرار في تنفيذ بقية قوائم الاغتيالات مرهون كلياً بردة الفعل على إغتيال الشيخ بن حبريش وجس النبض لما يحدث من تبعات لهذا الحدث المأساوي الخطير, الذي إن لم يخرج الأمة من سباتها ويدق نواقيس الخطر في أذانها, فلا شك بأن مواصلة الاغتيالات قطعاً سيستمر بعد أن يأخذ بعض الوقت للتهدئة والمراجعة وتدارس ردود الفعل والنتائج, وهنا يكمن أهمية الأمر وخطورته والغلبة لمن ستكون؟, هذا ما سيحدده ردود الفعل و موقف عموم المجتمع الحضرمي وقبائله ومدى متانة ونضج ذلك الموقف وجديته وإستمرار تفاعله , فالأمر لا يعني قبيلة أو فئة بعينها بقدر ما يعني جميع الحضارمة وكل من يعيش على أرضهم المباركة بل ومن في المهاجر.

هنا لابد أن نعي وندرك الواقع بكل موضوعية دون مزايدة أو تشنج عارض أو انفعال مؤقت لا يلبث أن يتبدد بلا نتيجة و لايترك أثر إلا تكريسا للهزيمة والخضوع والذل الذي ما أن ألفته وامترت عليه النفس ماتت كرامتها وسقطت هيبتها, ولنا في ذلك تجارب قريبة عهد لم يجف دمها وحبرها ولم تكف دموع الثكالى ولم تزل مرارتها ماثلة في ذهن و وجدان كل ذي أنفة وإباء وبصر وبصيرة.

كما أنه من الأهمية البالغة أن ينحصر تداول ومناقشة هكذا أمر جلل على نخب وصفوة من المنزهين والمطهرة أيديهم وعقولهم قطعاً من لوثة الحزبية والتبعية لكل شائبة أو شائنة, نحن نريد أمرنا بيننا وقرارنا من أعماقنا ومن قيمنا وتاريخنا العريق, لا أن يأتي مملياً علينا أو مفروضاً عبر الهواتف في قاعات الاجتماع, وقد يكون مصدره القاتل ذاته أو المتستر على صناع الجريمة أو المتآمرين علينا, فإن لم نفطن ونعي ذلك تماماً فنحن نجدد فتح الباب على مصراعيه ونضى الضوء الأخضر أمام كل متربص بنا لينال منا كيفما يشاء, إنها لحظة تاريخية هامة وأمانة عظيمة في أعناقكم أيها الرجال يامن تحملون في ضمائركم وفي أدمتكم وسحناتكم تاريخ أمة بأكملها صنعت الحضارات و أقامت دول وأزالت أخرى تمادت في غيها وبغيها, ونتمنى أن يكون مقتل الشيخ سعد بن حبريش ومرافقيه ـ رحمهم الله, الكارثة التي تحيا بها كل حضرموت ونفوق بها من غينا إلى رشدنا ومن تكالبنا على بعضنا إلى تراحمنا وأن يكون مقتل هذا الشيخ الشهم البطل, سبب في إنقاذ حضرموت الانسان والأرض والسمة والسمعة, كما كان يعمل ويتمنى في حياته رحم الله الشيخ سعد بن حبريش ومرافقيه وأسكنهم فسيح جناته مع الشهداء والأبرار.

 بقلم : محمد بن حسن السقاف

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص