وكأنما جادت عليّ الأقدارُ لألجَ صومعةَ عابدٍ ناسكٍ قابعٍ في محرابِ تعبّده، حيث يُصبحُ المحرابُ على ضيقِهِ هو الدنيا الفسيحةُ لذلك العابد الزاهد وحياته المنطلقة المحلّقة في عوالم وفضاءات ما يهوى ويعشق، فكلّ التفاصيل وكل الأشياء والزوايا وحتى خيوط العنكبوت ولحافات التراب الحانية في المكان لها في قلبه مدلولاتها ومكنوناتها ومعانيها، إنّه العشقُ الجميل والوفاءُ لمعشوقٍ استحقّ كلَّ ذلك بامتياز.
لعلني لا أبالغ إن قلتُ أنّ ذلك كان الشعورُ الذي اغتسلَت به جوانحي وأنا ألجُ صومعةَ مؤرّخٍ عاشقٍ وحكيم، مؤرّخ تتحدثُ معك روحُهُ قبل لسانِه، وجوانحه ولغةُ جسده تشي لك بحجم العشقِ المكنونِ في قلبه لهذا الكمّ من التراث والتاريخِ الذي ظلّ حارساً اميناً عليه طوال عقودٍ وعقودٍ من الزمان.
لقد كنتُ لساعةٍ من الزمن في حضرة الأستاذ الفاضل والمؤرّخ العاشق السيد جعفر بن محمّد السّقاف، هي زيارتي الأولى له في بيته حيث كنوز من التاريخ والموروث الذي لم يرثه السيد الفاضل جعفر السقاف – ذي الستةِ والتسعين عاماً - ولم يتحصّل عليه من أحد وإنّما هو من صنعهُ ووثّقه بيده وجهده، لقد شعرتُ بأيّما فخرٍ وانا استمعُ إلى مشواره الحافل بالجد والنشاط والاهتمام والمثابرة، إنبهرتُ حين علمتُ أنّه كان مراسلاً للإذاعة الشهيرة (BBC) وبحجمِ التغطيةِ التي كان يقوم بها للفعاليات وللحياةِ في حضرموت وعدن وغيرها، وبحرصه المفرط على التوثيق للوثيقة وللصوتِ والصورة.
لقد استمعتُ بمشاهدةِ حقبةٍ من تاريخ حضرموت على اشرطة الفيديو التي صوّرها بنفسه للسلطان حسين بن علي الكثيري والعديد من شخصيات وهامات البلد – الذين نفتقدُ أمثالهم اليوم – في العديد من المناسبات والفعاليات، ولعلّ من اسباب متعتي ودهشتي أنّه كان يعرضُ بعضَها عبر أجهزة العرض القديمة ذاتها التي كانت لديه ولا يزال محافظاً عليها تعمل وفي حالةٍ جيّدة، ويسردُ الأحداث ويعرّف بالشخصياتِ التي تظهر وكأنه يعيش اللحظة ذاتها بمحسوساتها ومكنوناتها رغم تقادمِ الزّمانِ عليها.
حقاً إنّه نموذجٌ رائعٌ وفريدٌ لرجلٍ عُصاميٍّ يستحقّ كلَّ تقيرٍ وإجلال، وأجيالنا بحاجةٍ ماسّة أن تستلهمَ من هكذا نماذج عصارةَ تجربتها ومشوارها الطويلِ في الحياة، أن تأخذ الدرس في عشقِ المهنة والعيش للقضيّة وخدمة المجتمع، في الإخلاصِ والمهنيّة والجديّة والحرص والانفتاح، كما أنّ المجتمعَ مطالبٌ سلطةً ومؤسسات بأن يقوموا بواجبهم في وضعِ هذا الحكيم العاشق في مكانته التي تليقُ به وينبغي أن تكون.
شكراً لأستاذي العزيز حسين علي الصبّان وأخي العزيز محمد سالم الصبّان على تنسيق هذه الزيارة ..وبلا شك فقد تفاجئا بمثلي برؤية إلتقاطة فيديو سريعة لوالديهما وعمّهما وهم في طريقهم لصلاة العيد بسيؤن إلتقطها أستاذنا العاشقُ للتصوير والتوثيق من نافذة منزله في خمسينيات القرن الماضي ..
حفظَ اللهُ استاذَنا الفاضل المؤرخ جعفر بن محمّد السقاف نبراساً نفخرُ به ونعتّز .. وأمدّه بالصحّة والعافية وطول العمر في طاعته ورضاه ..
بقلم الدكتور : عادل محمد علي باحميد